فرناندو يطارد حلمه ...


انا لن اراه
قل للقمر ان ياتي
لاني لا اريد ان ارى دم  اغناسيو على الرمال
انا لن اراه ..............لوركا

ثمة نور يتسلل إلى عيني المغمضتين من خلف العصابة السوداء المربوطة بإحكام حولهما يذكرني بخيط الضوء المنساب من بين أوراق الأشجار التي كنت أستظل تحتها ألاعب فراشة الربيع الصفراء، مزهواً بفتوتي مسحوراً بمنظر الحقل المستلقي تحت شمس نيسان الخجولة، فيأتيني صوت أبي كيدٍ توقظني من حلمي صائحاً بي : فرناندو اسحقها يابني ، عار عليك إن لم تفعل بل أنت عار على سلالة البرابو العريقة .لتثنيه أمي قائلة: دعه يا سانشيرو انه مايزال طفلا . فتحلق الفراشة راقصة كأنها ولدت للتو وكأني كنت سبيل خلاصها الوحيد .لم يكن جسدي الضخم حينها سوى مصدر فخر لي ولأبويَّ و لكني الآن أقبع في هذه الغرفة الضيقة وأتمنى لو كنت أصغر حجماً كي أريح قدميَّ قليلا، ، وقد سمعت الرجال الذين ساقوني اليها البارحة يقولون ادخلوه إلى التشاكيرو وغداً لنا معه شأن آخر .يزداد حنقي وطأة ويتسع منخري وهما ينفثان الزفير المشبع بالرطوبة بالخوف والاهتياج من أني أصبحت في نهاية الأمر مجرد ثور ساقية كما كان أبي يحذرني دوما : فرناندو عليك ان تظهر قوتك وتلتزم بالتدريب وإلا جروك من قرنيك كأحمق وعصبوا عينيك لتدور
ليل نهار مقيدا الى ساقية ماء حتى تخر صريعا في النهاية.
ثم اكتشفت الكذبة حين أخبرني العجوز خوسيه الثور الهرم والذي اختفى بعد حادثة السور المكسور وهو يمضغ حفنة من البرسيم الجاف -كما كان يفعل دوما -أن ثور الساقية هذا مجرد اسطورة قديمة وانه محض وهم قائلا : ستكون ثور ساقية إن أنت رضيت بذلك، وإن لم تدر حولها. خذ أبوك مثلا هو ثور ساقية لعين لكنه لا يدرك ذلك ،أما أنت يا فرناندو فقلبك قلب ثور برابو أصيل يا بني .
تفوح مني رائحة واخزة تذكرني بتجربة الفحولة الاولى حين أصبحت ثوراً بالغاً وكنت ألقح الاناث في مزرعة رامون الكبير وكدت أزهق روحي من جراء إفراطي في تبديد قوتي ومحاولة اثبات فحولتي ليثنيني كلب المزرعة خوان قبل أن يفوت الأوان محذراً من الإنسياق وراء الإغواء مهما كانت قوته , فتخزني رائحة العرق في جو الرطوبة الخانق في هذا القبر المدعو التشاكيرو وأضيق ذرعا من عماي الإجباري فأفتح أبواب سمعي علّي ألتقط صوتاً مألوفاً لأعوض النقص الذي اعتراني تماماً كما حدث معي حين حاولت الامساك بالراية المتدلية من حافة السور فالتفت علي ومنعتني من الرؤية ولم ينقذني من التخبط في أنحاء المزرعة و تجنب نصال السور التي كسرت بسببي إلا صوت أمي الذي قادني نحو الامان.  لكني هنا في أسري أفتقد الصوت الذي يدلني على وجهتي الحقيقية ، فلا يحيط بي سوى الموت حتى إني أكاد أشم رائحته وأسمع خطواته تقترب تطرق الممر الطويل الذي قطعته البارحة بخوار عالي يكاد يشبه في يأسه نهيق الحمار هكتور والذي يظل طوال اليوم ينهق في المزرعة ،منادياً على صغيره الذي دهسته أقدام القطيع أثناء محاولة هربها في حادثة السور المكسور . تقترب الخطوات أكثر أستطيع أن أميز قرع نعالهم فوق بلاط الممر المتكسر ، ليفتح باب قبري وازداد حنقاً وترقباً ، فتتعهدني أيديهم بقسوة تدفعني نحو النفق وتشيل عصابة عيني فأرى في نهايته بصيص نور أحث خطاي أملاً بالحرية لأركض باقصى ما استطعت ثائراً هادراً كإعصار وحينما اصل لنهاية النفق يبهر الضوء الكثيف عينيَّ التي اعتادت على الظلمة، فاستمر في الركض دونما هدف ولا تزال الصور تتراقص في ناظري حتى أتوقف فجأة مصدوماً أطالع جمهوراً كبيراً يكاد يصم أذنيَّ بصخبه الأرعن، فألتفت حولي لأرى رجلا يرتدي بزة مذهبة يقف بشموخ وكأنه يتحاداني ، فأبصق على الأرض شاتماً إياه وأحاول موازنة خصمي فيخرج لي عباءة لا أتبين لونها لكنه يلوح بها أمامي تذكرني بالراية المنكوصة فوق رأسي أيام مكوثي في مزرعة رامون. فأقدح الأرض بحوافري لكني لا استطيع الوصول له، لتتناوشني السهام من رجال البيكادور الممتطين خيولا ضخمة بعيون معصوبة لاتشبه الخيول التي أعرفها فهذه حصينة ضد ضرباتي .أتصارع مع نصال حادة تتكسر فوق ظهري يثيرني الدم النازف مني أراني أصبح نزقاً أكثر فالعطش يأخذ بتلابيب هدوئي، لاقف اخيرا وجهاً لوجه مع صاحب البزة المذهبة والذي عرفت فيما بعد أنه الماتادور ورايته التي يلوح بها وكأنه يستدعيني إليه ، فأنفث من أنفي الهواء المحتبس برئتيَّ أخرجه لاعناً هذه المرة كل الرايات المنصوبة وكل ثيران البرابو المغترة .أركض إليه خافضاً رأسي مصوباً بقرني إلى هدفي فيناورني خصمي ببراعة ويلتف حولي بساقيه الرشيقة،  فأخطأه واسمع صياح الجمهور اوليه اوليه ازداد حنقاً كيف تحيونه على قتلي متجاوزين خواري ودمي النازف مأخوذين ببراعته ببزته المذهبة بسحنته الشمعية و ابتسامته السامة. أعود وأنا أغالب وجعي والوهن الذي يعتريني أريد أن أنقض عليه واطرحه أرضاً أمزقه بقرني الملتفين، لكنه يتسلل ببطء ممسكاً برايته وكأنه يتراقص على الموسيقى الهادرة والتي ألاحظها للمرة الأولى تلك الموسيقى التي بدت لي جنائزية وكأن الموت هو من يراقصني. يقترب مني هذا الخصم يناورني ويتجنب قروني الحادة للمرة الثانية والثالثة وفي كل مرة تهدر أصواتهم الملعونة اوليه اوليه .في المرة الأخيرة كنت أريد الانتقام لشرف البرابو العريق فهززت رأسي وكأني أوازن بين قرني نظرت له مغضبأ خفضت رأسي وانطلقت إليه .كان كل شيء حينها وكأنه يسير باللقطة البطيئة حتى اصواتهم باتت خافتة وغير واضحة. وخصمي الذي رفع يده عاليا حين اقتربت منه وهوى بها علي لم أتبين ماكان يحمله فيها إلا حين غرسه في رقبتي بضربة نفذت إلى احشائي لكنها أخطأت قلبي .لأهوي بعدها بجسدي الضخم طريحا على الارض باسقاً الدماء المتجمعة في فمي ،فأسمع صراخهم هذه المرة جليا عاليا اوليه اوليه. فأوقن أني ما كنت سوى ثور ساقية أحمق ظن خطئاً أنه ثور برابو أصيل .



تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

وحيدة في المقهى....

رسائل مهجورة ....

صفعة أخيرة