حديث الصور

اصطفت الملاقط الخشبية على حبل التعليق في غرفة التظهير
المظلمة وكأنهن شواهد قبور زاداها الضوء الأحمر الخافت
رهبة فتدلت منها الصور مترنحة أمام عين الكاميرا الموضوعة
على الطاولة الجانبية كمشانق لا زالت مصلوبة بعد تنفيذ حكم
الإعدام ...
بدأت الصورة الأولى في الحديث
أنا خالد الطفل الذي كان يحلم بالمدرسة
لم أصل بعد إلى السن القانونية التي تخولني الدخول
كنت سأرتادها في العام القادم .
لا أعرف الكثير كل ما أذكره أصواتهم ووجوههم المتربة القاسية
كانت سكاكينهم تعمل فينا _عائلتي  أبي وأمي وأخوتي الثلاثة
وأنا_ كنت الأخير بينهم بعد أن أجهزوا على عائلتي اقترب مني
أحدهم والنصل الحاد لأسنانه المصفرة يشق ظلام الليل فينصفه
لم أتمالك نفسي من الخوف فبللت بنطالي  _.لطاما أمي وبختني
لمثل هذا الفعل فالمياه والكهرباء مقطوعة أغلب الوقت _
لم يمهلني الرجل طويلاً فقد رفع سكينه وحز عنقي بها
ومض الألم وبعدها رأيتني ارتقي إلى السماء كنت أعرف مسبقاً
أني سأذهب للجنة أمي أخبرتني ذلك في العام المنصرم حين ماتت
قطتي ودفنتها في حديقة منزلنا قالت لا تحزن ستنتظرك على باب
الجنة لكني لم أكن حزيناً كنت خجلاً من أمي التي تنتظرني على
الباب أيضاً ماذا سأخبرها عن بنطالي المبلل ؟
أتمنى أن لا يكون في الجنة مياه مقطوعة أيضاً.

الصورة الثانية
نحن التؤام الحديثي الولادة ولدنا كأزهار الخزامى الحميمية
متماثلين ومتقاربين لم نفترق أبداً منذ الصرخة الأولى احتجاجاً
على الحياة إلى أن باغتنا الموت ونحن في المهد سوية.
كنت أغني لأخي الذي يصغرني ببعض دقائق وحسب
أحاول أن أهدئ من روعه فقد كان ضجراً خائفاً على غير عادته
شرعت في الغناء همساً في أذنه حتى أوشك أن ينام
ليطبق السقف علينا فجأة ويغمرنا الركام
اشششش أرجوكم إخفضوا أصواتكم لا تسلبوه لذة الوسن
دعوه ينام دعوه ينام ...

الصورة الثالثة
كنت أخطو على مهل في عمري ذي الثلاثة أعوام تماماً كعدد
عجلات دراجتي الصغيرة التي اشتراها لي والدي حديثاً
كان حقاً مزهواً بي وهو يراني أركبها وأحاول جاهداً دفع نفسي
إلى الأمام لم تمهلني الرصاصة القانصة لذة الوصول والنجاح
استقرت في صدري الصغير الذي مالبث أن إنفجر تحت وطأة
الرصاصة القاتلة لأقع أرضاً فأرتقي إلى السماء وأرى والدي
من هناك يعانق دراجتي يحتضنها باكياً يشتم فيها رائحة كفي
الصغيرين وبقايا دمي العالق على عجلاتها الثلاث.


الصورة الأخيرة
أنا القاتل ....لكل هؤلاء وغيرهم الكثير
منذ أن تفجر أتون هذه اللعنة وأنا متورط بلعبة القتل هذه.
في البدء كنت أقنصهم لا أراهم سوى أهدافاً متحركة
لا يهم من كانوا؟  أو ماذا يفعلون؟؟
المهم أن أضغط على الزناد لتستقر بذلك حركاتهم إلى الأبد
في مرة كنت أعتلي إحدى أسطح هذه البنايات نهاراً
أبحث عن هدف للقتل فرأيت فتاة تطل من نافذة دارها
وكأنها تنظر إلي فقلت لرفيقي : أنظر إلى هذه الفتاة الصغيرة
أتراهن أني أستطيع إصابتها .
أجابني ساخراً:لن تقدر المسافة بعيدة والهدف صغير
استفزني كلامه كثيراً فقلت له : هل تريد الرصاصة في عينها
اليمنى أم اليسرى سحب نفساً من سيجارته ثم أطلقه بهدوء
قائلاً لتكن اليسرى
صوبت على الهدف كانت الشمس تلمع فوق مدفعي الصقيل
تزيده إغواء و وحشية .وضعت إصبعي على الزناد لم أتوحد
مع مدفعي لم أضع ثقلي في أصبعي المتحفز ببساطة
كنت أنا الرصاصة التي استقرت في عينها فأرتدها ميتة .
لكن كل هذا لا يضاهي متعة القتل بالسلاح الأبيض
هذا السلاح البدائي الذي يكشف عن وحشيتك يميط اللثام
عن بدائيتك يجعلك تقترب من الفريسة ترى دموعها
تشتم رائحة الخوف الذي يفوح من أنفاسها وارتعاش أوصالها
تتذوق الدم الذي يسيل بضربتك المحكمة ويهديك الهدية الأسمى
فترى الضوء ينطفئ في عينيها كمصباح يخبو فينظرون إليك
باستسلام وأحياناً بفرح .
كنت أديم النظر إلى وجوه قتلاي أجلس القرفصاء أمام جثثهم
أنفث دخان سجائري  وأتأملهم برهة وكأني أمام لوحة فريدة
تحمل ملامحاً غامضة فحين أنظر إلى أفواههم النصف مفتوحة
أجدهم يبتسمون وحين أرفع نظري إلى عيونهم أراهم هادئون
حالمون  وفي بعضهم كنت أرى السخرية تبرز من بين أسنانهم
الملوثة بالدماء وحيناً في العيون المطفأة .
كانوا يسخرون مني أنا ربهم الأعلى
فقد كانت حفلات الصيد هذه تصيرني إلهاً لكني لم أكن إلهاً رحيماً
كنت أقتل الجميع لم أبق على أحد من الرضيع والعجوز حتى الجنين
أو لعلي كنت شفوقاً فأقتل العائلة بأكملها فلا أدع أم لتشرب الحسرة
أو ابن ليتجرع يتماً أرأيتم لا زلت أملك قلباً.
 هذه الصورة الملتقطة حديثاً لي أُخذت حين تم قنصي برصاصة
في الرأس تلك التي خلفت ثقباً كبيراً في جبهتي وخيط دم رفيع
ينساب إلى أنفي وعينين مفتوحتين مذعورتين تقبضان على المشهد
الأخير حين كانت كل أرواح ضحاياي ترتقي وهي تبتسم وتسخر

مني وأنا وحدي أخلد إلى الأرض.

تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

وحيدة في المقهى....

رسائل مهجورة ....

صفعة أخيرة