كنت نخلة ....

كنت أظنني نخلة تضرب جذورها عميقاً في أرض نجد
قبل أن يبدأ جدي الأكبر تغريبته الأولى مهاجراً  يضرب في الأرض
 بحثاً عن الرزق وهو لا يعلم أنه بذلك كان يكتب تاريخي أنا ...
حط به الترحال وألقى عصاه ليبني خيمته الأولى بيت طين في حيفا
غارساً نخلته التي استحالت هناك في الأرض المباركة إلى شجرة زيتون
لا شرقية ولا غربية بل متوسطية تطل على البحر الذي يربض عند أقدامها
في قريته الصغيرة التي تتكئ على كتف حيفا جنوباً .
وهناك صرت زيتونة مباركة أعصر زيتاً ..فأرى أمي وهي طفلة صغيرة
تعرج على المعصرة القديمة لتغمس رغيف الخبز المنتفخ  الذي تلقفته
من إحدى النسوة بقرب الفرن الطيني لتكون بذلك قد حصلت على فطورها الصباحي
لم يطل بي المقام كثيراً بقرب البحر فقد بدأ أبي هذه المرة التغريبة الثانية القصرية
حين هاجر للشام تاركاً خلفه بيته الحجري وبساتين البرتقال وبقية الجذور
في الشام وتحديداً في أزقة دمشق نبتُّ كعريشة ياسمين في شرفة منزلنا
أنثر أزرار الياسمين كل صباح كمطر يتحلق تحته الصغار فيخيطون منه
أطواقاً وقلائد بيضاء ...
وكأن الحنين يشدنا دائماً إلى الأرض التي نبتنا منها
إلى قبضة الطين التي صنعت سحنتنا واستقينا منها سمرة يدينا
فرأيتني أعود إلى أرض نجد مجدداً مكللة بالبياض هذه المرة
هناك ظننتني سأعود نخلة عصية على الريح لكني كل ماحاولت غرس نفسي
مادت الأرض من تحتي ولفظت الرمال جذوري من قلبها
حرثت أرض الجزيرة العربية أبحث عن موطئ لنخلتي لكني لم أفلح سوى بتغريبة
 أقصى من حد السيوف العربية
 وتمنيت حينها لو أكون خيزراناً بمجرد أن يعاد زرعي أنبت من جديد
حتى أهاجر للشمال حيث سيراني رجال الفايكنج كسحر شرقي خالص فيتمسحون بي ..
لكني لست كذلك لست خيزرانة فأنا لا زلت نخلة تحمل بقلبها زيت مبارك
من فلسطين و عبق ياسمين دمشقي يعرش على وجهها وأصابعها ..
لم تمت هذه النخلة ولكن شوهدت آخر مرة في متحف النباتات الطبيعية محاطة بزجاج

مكتوب عليه ممنوع اللمس ..



تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

وحيدة في المقهى....

رسائل مهجورة ....

صفعة أخيرة