تأملات كلب مشرد

كلب الشوارع المشرد الرابض بكسل تحت السيارة الفارهة
يراقب صباحاً شارع المدينة المكتظ بدهشة متحفزة
يبدأ صباحه بالقدمين الصغرتين المتسارعتين المزدانتين بالجوارب
البيضاء ذات الكشكش الوردي والتي تنسل فيها الأصابع الصغيرة المدورة
ذات الأظافر المقصوصة حديثاً بحميمية كأصابع بيانو تنتظر صاحبها
ليعزف عليها .فتسأل إحداهما الأخرى: أليس هذا الجورب يليق بي فتجيبها
الأخرى بدلال: و بي أيضاَ ,لتعاود الأولى السؤال وهي تتراقص جذلة:
ماذا سنفعل في أول يوم مدرسي هل سنتعلم الرقص على رؤوس الأصابع
أم الرقص النقري أم –وتخفض صوتها حين تمر الذكرى أمامها- ستخطئ
صاحبتنا في الحساب لينزل عليها العقاب فلقات أربع نقتسمها سوية
فتصمت الأخرى وتشد في المسير وكأنها تركض خوفاً من الذكرى
المتجسدة بصورة الخيزرانة الملساء.
من الطرف الآخر للشارع الطويل تظهر القدمان المكتنزتان المحشورتان
بحذاء رياضي ممهور بماركة عالمية وهي تكاد أن تنهار تحت ثقل 
الكرش الضخم الذي يهتز كثيراً مما جعل الكلب يرفع رأسه مستثاراً ينتظر
أن يقفز الكرش من مكانه ويتدحرج أمامه فيلاعبه ككرة الاطفال اللينة
في الحارات الفقيرة التي يأوي إليها عادة .
لكن حديث القدمين أعاده لرشده فأنصت لحديث إحداهما الحانق من ضيق
الحذاء الجديد والعرق المتدفق من بين أصابعها الثخينة  لتقول:
ما حاجة صاحبنا للمسير في هذا الجو الخانق وهو يملك سيارة حديثة
أكان لزاماً علي أن أسبح وسط هذا الماء الراشح مني وأحمل هذا
الثقل على عاتقي حتى يرضي بذلك طبيبه الذي نصحه برياضة صباحية
قبل الذهاب لعمله ما أتعس حظي كم أتوق إلى يدي الحسناء في صالون
التجميل والتي تقوم عادة بتدليكي وتقليم أظافري أظن أن موعدنا معها
الشهر القادم .
يشيح الكلب بوجهه عن الأقدام المارة أمامه وهي تتمايل كالبطريق
فقد اشتم رائحة المرض الخبيث الذي يفوح من صاحبها ويأكل بجسده
وقد لا يمهله إلا القليل.
يعاود الكلب سيرته الأولى في التأمل
يقبع تحت السيارة بخشوع ينظر إلى الرصيف المقابل والشجرة الوحيدة
المنتصبة فيه يحرك ذيله نافضاً الغبار العالق خلفه وكأنه يمسح ماضيه
وذكرياته وربما كان يرقص على وقع طرقات الكعب العالي القادم من
ناصية الشارع بقرب المقهى الصاخب طق طق طق طق
وكأن كل قدم تسابق الأخرى وتعترضها متقدمة عليها تشابه بذلك مشية
عارضة الأزياء قائلة : بل أنا  لا  بل أنا.                     
كان الحذاء بكعب عال وفتحة أمامية تسمح للأصابع المصبوغة باللون
الأحمر أن تكشف عن وجهها تحت ضوء الشمس فتلمع أكثر كقطعة القماش في يد مصارع الثيران والتي تثير الجمهور والثور على حد سواء.
هذه السيقان البضة المتناسقة والممتدة تحت التنورة السوداء الضيقة
أثارت حفيظة الكلب فانتفض واقفاً ليخرج من تحت السيارة وهو يمد
لسانه لاهثاً يركض خلف الكعب العالي غير منتبه للسيارة الفارهة
التي تعود لصاحب الأقدام المكتنزة القادمة من وراءه والتي تصدمه
بسرعة وتتركه على قارعة الطريق يلفظ أنفاسه محدقاً في الكعب العالي

الذي يلوح من بعيد وثلة الأقدام الأخرى التي تجتمع حوله . 

تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

وحيدة في المقهى....

رسائل مهجورة ....

صفعة أخيرة