أنين باب

أنا ذلك الباب الرابض في وجه الريح.
الباب الذي تئن مفاصله الخربة كلما لامسته الأيدي المتعطشة للعب.
الباب الذي يحاول في كل مرة أن يمسك السيدة التي تتجاوزه مسرعة فيعلق بأكمامها كأنه يطالبها البقاء أو ينقبض على طرف ثوبها وكأنه يسألها الذهاب معها وكم مزق لها من أكمام واسعة ومسح بقية غبارها على أطراف ذيلها .
الباب الذي تداعب ركبتيه الأيدي الصغيرة في الطرق عليها وحين تتعب ترفسه بأقدامها المتسخة تضربه بلا هوادة وكأنه المعترض على دخولها أو الحائل بينها وبين الفردوس المختبئ خلفه ولكنني كنت أشد مكراًمنها فكم زمجرت في وجهها وقرصت لها اصابعها المنمنمة حتى أدميتها لا تلوموني رجاء ,أنتم لم تجربوا كيف تصبح هذه المخلوقات الصغيرة مجردة من الرحمة .
أنا الباب الذي علقوا في وسط وجهه حلقة معدنية لتعزف على وجهي لحناً يختلف باختلاف الأيدي العازفة فالمشتاقة منها تطرق طرقات متتالية لا تنتظر بينها أن ألتقط أنفاسي أو أبتلع ريقي والمترددة تطرق طرقات متباعدة و كأنها تقدم واحدة وتؤخر أخرى أما الغاضبة فتطرق طرقات قوية تكاد أن تهشم وجهي تحت قسوة سياطها لكن ما لبثت هذه الحلقة أن صمتت إلى الأبد بعد أن صدأت مفاصلها وتشجنت أمام وجهي فالجرس الحديث سحب منها البساط و تركها في وجهي كبثرة كبيرة أو وشم قديم و ربما كتحفة أثرية .
أحاول أحياناً أن أتذكر سيرتي الأولى من أي شجرة اقتطعت ومن أي غابة جُلبت لست أذكر سوى أن جذوري تمتد لشجرة زان معمرة على أطراف غابة رومانية اعتاد العشاق أن يجلسوا في فيئها وأن يحفروا أسمائهم على خارطة جسدها وحين ينحسر العشاق تتبادل اشجار الغابة قصص حبهم السخيفة كيف لا وقد ألمتنا قصصهم و أدمت أجسادنا بوشم أسمائهم علينا ,أما الآن لا صديق لدي لا باب مقابلي أو بجواري ليبادلني أسراره كم يد طرقت عليه , كم قطة تبولت بقربه , كم قدم ركلته , كم حريق كاد أن يودي به ,وكم حديث مرَّ به وأنصت له مرغماً ولكنَّي أحفظ عن نفسي جميع الأيدي التي لامستني ,وكل الأقدام التي رفست خاصرتي , والقطط التي تمسحب بي , والكلاب الضالة التي عوت في وجهي , والمتسولات اللواتي بصقن في عيني , والهمسات اللاتي تسللت إلى أذني كلما حاولت ليلاً أن أنام , وكم حلمت حينها لوأن جذوري كانت تعود لشجرة صنوبرفأتحول بعدها إلى كمان تعانقه الأيدي ويدنو من الأنفاس فيلتحم معها في دفء الغناء , أو لعلها كانت تعود لشجرة أبنوس صقيلة كامرأة أفريقية فأصير بعدها أصابع بيانو سوداء أتقلب بين بيمول ودييز وبين خفض ورفع أو أصبح تحفة فنية لفيل هندي ضخم أو بيدق شطرنج منتصباً في حرب وهمية وحين يسدل غبار المعركة احتضن احدى قطع الشطرنج الأخرى في الصندوق العاجي و أنام  ولعل حظي يكون جيداً فتكون الملكة بين يديَّ اولسنا في النهاية مجرد بيادق للأصابع العلوية اللاعبة .

طوال عمري كنت حارساً أميناً صامتاً صلباً لا ريح استطاعت فتحي ولا لص استطاع كسري ولا تسرب إلى قلبي المطر ولم أطلب لكل ذلك أجراً لكن المرة الوحيدة التي فُتحت على مصراعي وخرج سيدي صاحب البيت الذي لم أراه إلا لمماً والذي لم يطرقني يوماً فالكلمة السحرية افتح يا سمسم كانت بحوزته على شكل قطعة معدنية أقول خرج صاحبي هذا مسَّجى على قطعة خشبية محمولاً عليها كملك مرفوع فوق الأكتاف وكانت المياه تتقاطر من عيون حملته حينها غبطت هذه القطعة الرخيصة من خشب القشرة فما ضمني أحدهم يوماً وما حملني أحد قط , أقصى ما حدث لي في حياتي كان ذلك اليوم حين أغلقتني زوجه خلف المشيعين واتكأت على ظهري وبكت بحرقة وصمت فأنتحبت معها .  

تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

وحيدة في المقهى....

رسائل مهجورة ....

صفعة أخيرة