طيف ولكن

لم تكن طيف تشعر بأية اختلاف حين أستيقظت ذلك الصباح البارد الكئيب ،ولم تشعر بأدنى دهشة حين نظرت لانعكاسها في المرآة لم تستغرب لتحولها الأخير ﻷنه لم يأتي على نحو مفاجئ كما حدث ليغريغور سامبا حين استيقظ صباحا ليجد نفسه وقد تحول فجأة لحشرة كاملة .
كانت تحدق في المرآة وهي ترى انعكاس لبقعة الرطوبة الواقعة في الجدار خلفها وقد تعرت تماما فبان وجه الحائط الحقيقي وهي تردد لنفسها :هذا طبيعي جدا ،بل أظنه ملائما لي أكثر من قبل، هذا اللون الرمادي يشبهني حقا .
كان منظرها مرعبا فقد تحولت بشكل كامل للون الرمادي لم تكن هناك أية ألوان أخرى لم يكن هناك وردي أو أبيض أو حتى لون أسود يظلل خصلات شعرها كذي قبل ،لم يكن سوى الرمادي يصرخ فوق شفتيها ويتبعثر على شعرها ويتشتت في أرجاء جسدها .
لكنها لم ترتعب أبدا ليس لشجاعتها المفرطة بل ﻷن هذا التحلل من الألوان لم يأتي دفعة واحدة كما قلت مسبقا فأول ما سقط من ألوانها كان اللون الأحمر لم تنتبه له في بادئ الأمر حين لم تعد وجنتيها تحمر خجلا كما كان يحدث معها كلما وبخها زوجها إذا ما فعلت أمرا أخرقا أو كلما سمعت غزلا رقيقا  ليس ﻷن هذا لم يعد يحدث معها بل ﻷنها تعلمت كيف تتحكم بمشاعرها وتغطيها بقناع محكم ، لكنها حين جرحت إبهامها ذات مساء كما تفعل عادة عندما تقوم بتحضير السلطة على عجل و فكرها مشغول بعبارة زوجها الرنانة “إنكن لتكفرن العشير “هذه العبارة التي تلاحقها كسوط يلهب ظهر مشاعرها ،تخرج من فمه كلعنة وتطاردها منذ زواجها منه ، حينها سال دمها فاكتشفت الأمر ،فدمها لم يكن أحمرا قانيا كما تكون الدماء عادة بل كان رماديا داكنا وكأنه رماد سيجارة  قد خالطه شيئ من الماء، لم تصدق طيف حينها ما يحدث واعتقدت لبرهة أنها عالقة في حلم سخيف كأحلام ليالي الحمى التي تعتريها بين فترة وأخرى حين تعلق في حلم لتسيقظ فتجد أنها في حلم آخر ،ثم ذعرت حين تلمست جسدها و غسلت وجهها ولم تستيقظ مما اعتقدته حلما لذلك خمنت بأنها ماتت وهذه هي حياتها الأخرى و جزاؤها على ذنوبها فما أكثر عقابا يمكن أن تناله سوى عودتها مرة أخرى لتعيش ذات حياتها القاسية، لكنها عادت واستبعدت هذا التخمين ليس لأنها وجدت ما يدحضه لكنها أيقنت أنها لن تعرف إذا ما كانت أي من حياتيها هي الحقيقية وأي منهما المزيفة وأيهما عقابا وأيهما منحة ،لذلك توقفت عن الدوران في دائرة مغلقة وقررت أنها ما زالت حية ترزق وأن ما أصابها هو خلل وظيفي نعم مجرد خلل وظيفي لن يؤثر على آدميتها
حافظت طيف على سرها الصغير وحمته بشكل أمومي لذلك شرعت بإرتداء القفازات دوما لحماية أكفها و لم يفتها أن تختارهم باللون الأسود ﻷنه سيحول أي لون عندها لبقعة داكنة تتراقص عليه كما أخذت ترتدي القمصان ذات الياقة المرتفعة والأكمام الطويلة حتى تغطى أكبر مساحة من جلدها وبالتالي السر الكامن تحته.
هذا الحرص المبالغ فيه لم يعد يجدي وإنهار دفعة واحدة حين سقط منها اللون الثاني ،حدث ذلك بعد حوالي شهر من بدء تحولها ، كانت تدور في كنف زوجها و سياطه تلاحقها وخوفها الذي كبر وخاصة بعدما نالت صفعتها الأولى لأنها تلكأت في إجابة طلبه للفراش كانت مرهقة وغير راغبة به وهذا مرفوض في عرفه ليلتها نالت صفعة وهجرا تأدبيا لها وكأنها حيوان حبيس داخل قفص بقضبان عزلة ،ليلتها حلمت بأن طيورا بيضاء تخرج من فمها وتحلق في السماء حتى حجبت عنها ضوء الشمس وساد اللون اﻷسود في سماء حلمها ،أستيقظت فزعة والعرق يغطي جسدها ليترك منامتها مبللة وضوء القمر يتسلل على سريرها يلقي ظلا على جلادها فيمنحه مظهرا منحوتا وكأنه تمثالا لقيصر بائد أو فرعون طاغية ، نهضت من سريرها على مهل فقد كانت تخشى استيقاظه ومشت بخطوات خافتة نحو المرآة تتفقد وجهها لتنتبه للجدار خلفها بأن الرطوبة التي يخلفها المكيف قد جعلت فيه بقعة دائرية منتفخة وقد بدأت بالتقشر ولم يعد بالإمكان إصلاحها ثم انتبهت لوجهها وهالها أنها قد فقدت بياضها للتو صار كالحا نوعا ما، أشبه ما يكون ببهاق علا جسدها أو شحوبا أعتراها حتى بياض عينيها تعكر وهنا فشا فيمن حولها أنها تعاني مرضا عضالا لن يمهلها كثيرا فأشفقوا عليها .
بذلت طيف كل جهدها بداية لتحاول العودة لما كانت عليه لأمراة تضج بالألوان ،ولأنها فنانة حاولت رسم نفسها من جديد طبعا لم تخرج عن المألوف في تلوين صورتها لم تحاول حتى أن تغير من لون قزحيتيها للون الأزرق او الفيروزي الذي كانت تتمناه سابقا ،بل قدمت نفسها كما عهدها الناس فيما مضى لكن ذلك للأسف لم يجدي نفعا، فالمطر في حال هطوله كان يحولها للوحة تجريدية تختلط فيها الألوان وتذوب فيها الملامح.
لذلك يئست طيف من محاولة التماهي والعودة لما كانت عليه مسبقا ورضت بقدرها هذا لم تعد تصرخ فزعة حين ترى انعكاسها على المرايا أثناء مرورها أمامها وهي غافلة ، لم تعد تبكي حسرة حين تطالعها صورتها الشخصية في بطاقة الأحوال الشخصية عندما تفتح حافظة نقودها، تلك الصورة القبيحة والتي حاولت جاهدة في كل مرة تقف فيها أمام عدسة المصور أن ترخي من قسمات وجهها وتبتسم ولو قليلا علها تحظى بلقطة لا بأس بها لكن كل محاولاتها باءت بالفشل والدليل الصورة التي تزين بطاقتها الآن ومدى دراميتها كأنك تخالها صورة للقضاة من العهد الفيكتوري لم يكن ينقصها سوى الشعر المستعار لكن هذا الحديث لا يهم الآن فالعودة باتت مستحيلة حتى لهكذا صورة كئيبة .
حافظت طيف على سواداها المتبقي أقصد اللون الأسود الذي يغطس في عينيها و ينسدل فوق خصلات شعرها، لم يكن سوى الورقة الأخيرة والتي تتمسك بها لتشعر بأن الحياة ما زالت تشتعل بداخلها، لكن هذا لم يصمد لفترة طويلة ولم تصاب بالدهشة كما قلت بداية حين سقط هذا اللون الأخير مفسحا للرمادي كي يفترسها كانت ليلتها تحلم بكابوس مرعب بعد نقاش طويل مع زوجها عن حقها في العمل وخاصة أنها تملك شهادة جامعية في اختصاص مرغوب في سوق العمل لكنه كالعادة أغلق باب النقاش بكلمته الحاسمة وقرن في بيوتكن وأنت لست إلا عوان لدي  وذهب للنوم مديرا لها ظهره الضخم وكأنه جسرا مهجورا أو سدا عتيقا ، و الكابوس الذي حلمت به لم يكن سوى غرفة الفئران الانفرادية التي كانت معلمة الصف الأول زينب تخيفهم بها وتجعلها عقابا لمن يتقاعس عن حل الواجبات ، فوجدت نفسها بها وقد طليت أذنيها وأصابع يديها بدبس الخروب والفئران الصغيرة والعديدة تلعق أصابعها وتقرض أذنيها وهي تصرخ متألمة ولا مجيب .وحين استيقظت كانت خالية من كل الألوان تماما .
لم تسأل طيف نفسها لماذا كانت تتساقط ألوانها ربما ﻷنها كانت تعرف ،وربما لأنها لم ترد أن تعترف حتى لنفسها أنها كانت تسقطها عمدا، وكما لم تبحث عن السبب الذي أدى لفقدانها ألوانها كذلك لم تبذل أي عناء لتحل هذه المشكلة حلا جذريا .
وقفت طيف ذلك الصباح الكئيب البارد أمام المرآة تنظر لنفسها مليا ثم برق شيئ في عينيها فبالرغم من لونهما الرمادي الكالح إلا أنك لا زلت تلاحظ جذوة فيهما ،فأخذت نفسا عميقا ثم تناولت من درج في الخزانة ممحاة سبورة قد احتفظت بها منذ أن كانت طفلة على مقاعد الدراسة ولا تعرف لذلك سببا سوى أنها تذكرها بطفولتها وبالوقت الذي كانت مسؤولة فيه عن مسح السبورة لمعلماتها .
نعم تناولت الممحاة و نظرت لظلها المنعكس في المرآة وأومأت له وكأنها تحيه ثم شرعت بفرك جسدها بدءا من قدميها صعودا إلى قمة رأسها ،كانت تدعك جسدها بالممحاة بنزق لا مبرر له وكأنها تعاني جربا أو حساسية في جلدها وبإبتسامة متواطئة ،وكانت كلما دعكت أكثر كلما تصاعد الغبار أكثر وملأ أرجاء الغرفة وحالما انتهت طيف سقطت الممحاة على الأرض و أخذ الغبار الكثيف ينقشع رويدا رويدا.

تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

وحيدة في المقهى....

رسائل مهجورة ....

صفعة أخيرة